حصـاد الميـاه مفتــاح أفريقيـا الذهبـي
تلبية الاحتياجات الغذائية عالميًّا تحتاج إلى استراتجيات تخزين مياه الأمطار، والحفاظ على رطوبة التربة؛ لتخطِّي فترات الجفاف في سلام، حسب يوهان روكستروم ومالين فالكنمارك.
الحقول الخضراء المدرَّجة في جبال سيمين الإثيوبية تحافظ على رطوبة التربة.
الحقول الخضراء المدرَّجة في جبال سيمين الإثيوبية تحافظ على رطوبة التربة.
Bobby Haas/National Geographic Creative
يقتضي ضمان تلبية الاحتياجات الغذائية في العالم بحلول عام 2050 مضاعفة إنتاج العالم من الأغذية1. وسوف يتطلب تحسين المحاصيل الزراعية في هذا النطاق إعادة التفكير جذريًّا في استراتيجيات إدارة المياه في العالم وسياساتها.
مركز هذا التحدي هو جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، حيث إنّ عدد سكان المنطقة مهيأ ليكون أكثر من الضعف بحلول عام 2050، ليصل إلى قرابة 2.5 مليار، أو %25 من عدد سكان العالم المتوقع2. ويعيش نصف سكانها ـ البالغ حاليًا بليونًا من البشر ـ في ظل فقر مدقع، والربع يعانون سوء التغذية، والخُمْس يواجه شحًّا شديدًا في المياه. ورغم أن ثلثي السكان تقريبًا قرويون وفلاحون، فإن الزراعة على أكثر الأراضي محدودة ومقيَّدة بنُدْرة مصادر المياه وتنوعها، وتقلبها على نحو لا يمكن التنبؤ به3.
الزراعة في جنوب الصحراء تَعتمِد بنسبة %95 منها على «المياه الخضراء»، أي الرطوبة الناتجة من مياه الأمطار المحتجَزة في التربة. وفي أجزاء كبيرة من القارة، تتبخر غالبية الأمطار قبل أن تولِّد «المياه الزرقاء»، أو المياه الجارية، التي ما يعيد القليل منها تغذية الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية. غالبية المجتمعات الزراعية تقع بعيدة عن الأنهار4، ولا يمكنها الاستفادة من الري. وتشكل الصحاري القاحلة وسهول السافانا شبه القاحلة نحو %40 من أراضي المنطقة. وهذه تستقبل القليل جدًّا من المياه الجارية (أي أقل من 100 ملِّيمتر سنويًّا) لزراعة الذرة، والأرز، والدُّخن، والسورغم (حيث يحتاج 400 مم على الأقل في السنة) باستخدام مياه الري فقط. وسيكون هَطْل الأمطار أكثر تغيرًا في المستقبل، وقد يقل بنسبة %25 في عدة مناطق شبه قاحلة، إذا ارتفع متوسط درجة الحرارة عالميًّا بنحو درجتين سيليزيَّتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية5.
إن إدارة المياه الخضراء من أجل الزراعة «المطيرة» ـ المعتمدة على المطر ـ على نطاق ضيق أمر متمم لجهود القضاء على الجوع، لكنه لم يُذكر في مشروع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، الذي سوف يُوافَق عليه في سبتمبر القادم. وتكريس هدف يتناول قضايا المياه، بما في ذلك المقاصد والمؤشرات العلمية، أمر ضروري، حظى بالاهتمام أثناء مفاوضات أهداف التنمية المستدامة في نيويورك، التي حدثت في أواخر مارس الماضي، في أعقاب يوم المياه العالمي (22 مارس من كل عام).
نقترح منهجية لمقصد من مقاصد أهداف التنمية المستدامة، من شأنه تحسين الأمن المائي، ومحاربة الجوع والفقر، وتعزيز قدرات اختزان الكربون. والحفاظ على المزيد من ماء المطر في التربة وتخزين المياه الجارية من شأنه تجاوز فترات الجفاف التي تستمر لأسابيع، وهذا تحدٍّ كبير لمنظومة إنتاج الغذاء. أمّا على مستوى فترات الجفاف الأطول، فثمة حاجة إلى استراتيجيات اجتماعية واقتصادية؛ لضمان الأمن الغذائي.
إمكانات غير مستغلَّة
إن قضية المياه من القضايا المتوغلة في أهداف التنمية المستدامة، بدءًا من تحسين المياه والصرف الصحي، وانتهاء بالقضاء على الجوع والفقر، لكنْ ما مِن نِقاش حتى الآن حول الكيفية التي ينبغي أن تدار بها موارد المياه؛ لبلوغ تلك الغايات. فالأهداف غامضة، وتَفترِض ـ كالمعهود في استراتيجيات المياه وسياساتها على مر عقود ـ أن الماء يمكن جلبه من الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية؛ لقضاء كل الحاجات.
الميل إلى استخدام المياه الزرقاء ناجم عن تحديث البِنْيَة التحتية للمياه، الذي بدأ في خمسينات القرن العشرين، عندما بُنيت غالبية السدود ومحطات الضخ. ومنذ ذلك الحين، يُنظَر إلى إدارة المياه باعتبارها تحديًا هندسيًّا. والممارسات التقليدية الخاصة بالمياه الخضراء، مثل الحفاظ على التربة، والمياه، وحصاد المياه، تشهد انتعاشًا بأنحاء شتى من العالم، حيثما يصير الري حلًّا غير عملي، لكن الحوار عن أهمية دعم الزراعة المطيرة لم يتحول بعد إلى استراتيجيات وسياسات استثمارية لصالح التنمية.
تشمل المناطق غير القابلة للري أماكن ذات كثافة سكانية عالية، مثل منطقة الساحل في أفريقيا، وشمال الصين، ووسط الهند. وفي جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، يعيش قرابة 500 مليون نسمة في مناطق جافة - كالصحاري، والأراضي العشبية، وغابات السافانا ـ في بلدان مثل مالي، والنيجر، وزيمبابوي. ويعيش 245 مليون آخرين بمناطق تزيد فيها الرطوبة زيادة طفيفة في غابات السافانا، وخير مثال على ذلك.. أن هناك مساحات كبيرة من تنزانيا وزامبيا، تنخفض مستويات المياه الجارية فيها انخفاضًا يجعلها تعجز عن ريّ الحقول (انظر: «أراضٍ أفريقية جافة»). وعلى أي حال، لا غنى عن مياه النهر؛ لسد احتياجات الحضر، والصناعة، والطاقة.
عادةً ما يُعزَى سبب فقدان المحاصيل إلى موجة جفاف طويلة، أو إلى موجة مفاجئة في مرحلة زراعية مهمة خلال الموسم الزراعي، مثل فترة الإزهار، وليس فترة قلة سقوط المطر. ومرور عدة أسابيع من دون نزول مطر أمر وارد ومعتاد، وربما يحدث في كل موسم، وتأثيره يكون مدمرًا في بعض الأحيان. وفي عام 2000، حلَّت بعد البداية المبكرة لموسم المطر ستة أو تسعة أسابيع من الجفاف؛ أعاقت نمو المحاصيل الرئيسة، كالذُّرَة في كينيا، كما عرَّضت أربعة ملايين إنسان في البلد ذاته لمعاناة من النقص الغذائي الحاد.
لقد صار هَطْل الأمطار أكثر تقلبًا وتغيرًا. وشهدت كل من زامبيا، وملاوي، وزيمبابوي مواسم مطيرة، وفترات جفاف طويلة، وأيامًا قليلة المطر خلال الخمسين عامًا الماضية بصورة لم تشهدها من قبل6. والسبب في ذلك لا يمكن الجزم به، لكن ربما يرتبط بالتغيرات المناخية.
إنّ كميات المياه المفقودة تفاقم من صعوبة الزراعة في الأراضي المدارية الجافة. ويُظهِر البحث الميداني أن %50 - %70 من المطر لا يصل إلى المحاصيل، وإنما يتبخر، أو يصير ماء جاريًا (متسببًا في تآكل التربة)، حيث يعيد تغذية المياه الجوفية (انظر: «التوازن المائي في جنوب الصحراء»). وتوجيه مياه أكثر نحو المنطقة سوف يحسِّن إنتاجية الغذاء على نحو كبير7.
حصاد المياه
من الممكن الاحتفاظ بالمياه الخضراء بثلاث طرق: تجميع المياه الجارية؛ وتحسين تغلغل المطر في التربة؛ وإدارة الأرض والمياه والمحاصيل عبر نقاط تجمُّع مياه الأمطار؛ لزيادة تخزين الماء في التربة، والأراضي الرطبة، والمياه الجوفية7.
تشمل أساليب حصاد المياه على نطاق صغير عملَ المصاطب؛ للاحتفاظ برطوبة التربة، كما هو الحال بمصاطب فانيا-جو الشهيرة في مَشاكوس بكينيا، أو باستخدام السدود والترع؛ لتحويل المياه الجارية وتوجيهها نحو الحقول، كما هو مستخدَم على نطاق واسع في إريتريا وإسرائيل. وأنظمة التخزين ـ التي تتمثل في البِرَك، والخزانات، والتخزين تحت سطح الرمال والتربة ـ المستخدَمة في أماكن مثل شمال المكسيك، وإثيوبيا، والسودان، والهند، تقدِّم منهجًا مختلفًا. ويمكن لهذه الأنظمة جميعها أن تحجز من الماء ما يعادل مقدار المياه المتساقطة في موسم مطير؛ ما يكفي لعبور فترات الجفاف التي تمتد لعدة أشهر.
وقد عرفت عدة أجزاء من أفريقيا فكرة حصاد المياه، من بينها كينيا وتنزانيا، منذ ثمانينات القرن العشرين من قِبَل المنظمات غير الحكومية، ومنظمات التنمية، بما في ذلك الأمم المتحدة. وقد تحسَّن بفضلها ثبات غلة المحاصيل، وأمكن زيادة الإنتاجية من طن في الهكتار الواحد إلى 3-4 أطنان8.
أثبتت هذه التقنية فعاليتها في أماكن أخرى. ففي الهند، أنعشت بعض حكومات الولايات ومنظمات المجتمع الأهلية طرق حصاد المياه. وفي ولاية كارناتاكا، هناك ثلاثون مقاطعة، تحكمها إدارة رائدة متكاملة للأرض وللمياه، بما في ذلك حصاد المياه؛ مما أسهم في رفع إنتاجية المحاصيل. وبفضل السدود، والأخاديد، والبِرَك، وتحسين إدارة المياه والغذاء والمحاصيل، زادت المحاصيل الزراعية الهندية من قرابة طن في الهكتار الواحد حتى 5 أطنان7. وفي إقليم قانسو القاحل بالصين، تصل إمدادات المياه إلى بيوت مليوني شخص باستخدام خزانات كروية صغيرة تحت السطح في جمع مياه الأمطار، وهناك يُستخدَم حصاد المياه بشكل متزايد في الزراعة9.
ثمة حاجة إلى استراتيجيات إدارة التربة ومغذِّياتها؛ من أجل تعزيز إنتاجية المحاصيل الزراعية. وإحدى أكثر الممارسات الواعدة هي التخلي عن استخدام المحراث، حيث ثبتت فعاليتها في حرق كربون التربة، عن طريق تعريضها لأشعة الشمس والأكسجين؛ ما يسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. والحرث يضغط التربة ويغطيها بقشرةٍ تمنع المطر من النفاذ فيها، كما يمنع زيادة جريان الماء. أمّا الحرث المُحافِظ (الذي يحفظ التربة) فهو يمنع تقلب التربة، ويسمح باشتداد بِنْيَتها، ونماء كائناتها الحية الدقيقة.
بتطبيق الحرث المحافظ على أراضي المحاصيل في العالم، يمكن زيادة امتصاص ما يصل إلى جيجا طن من الكربون سنويًّا، أو ما يعادل تُسْع الانبعاثات العالمية حاليًّا10. وسوف تكون لذلك ثلاث فوائد: تخفيف حدة تغير المناخ؛ وزيادة غلة المحاصيل لاستخدام المياه الخضراء؛ والحدّ من تدهور التربة من خلال تقليل الماء الجاري على السطح. والطُّرق المستخدَمة على أكثر من ثلث الأراضي المزروعة في أمريكا يتزايد استخدامها في أفريقيا. وهذا ما يحدث ـ على سبيل المثال ـ في أثيوبيا، وزامبيا، وزيمبابوي.
من الأشياء التي تمنع عملية التبخر: فرش القش، وغطاء التظليل. والعامل المحدد في ذلك هو شدة فقر مغذيات التربة، التي تسود نظم الزراعة بسهول السافانا، لا سيما في أفريقيا. ويمكن إضافة المغذيات عن طريق المخصِّبات، والأسمدة. ورَفْع استخدام المغذيات من المتوسط الأفريقي الحالي البالغ أقل من 10 كجم من النيتروجين والفوسفور لكل هكتار سنويًّا إلى 50-100 كجم (وهي نسبة أقل من المتوسط العالمي) يمكنه زيادة الإنتاجية عدة مرات.
تحتاج استراتيجيات إدارة المياه الخضراء إلى توسيع نطاقاتها.. من الحقول إلى نقاط تجمُّع المياه وأحواض الأنهار. وتنبغي حماية مجموعات متنوعة من النظم الإيكولوجية؛ للتخفيف من آثار الفيضانات، والحدّ منها، وللحفز على تدفق المياه تحت الأرض؛ لتفادي التآكل بسبب المياه الجارية. إن الأراضي الرطبة، والأنهار المتعرجة، والغابات، ومساحات المناظر الطبيعية هي أصول رأسمال طبيعية؛ تعزِّز المقاومة والبقاء.
وإدارة نقاط تجمُّع المياه وأحواض الأنهار تحمي أيضًا من هَطْل الأمطار محليًّا. فالكثير من الأمطار الاستوائية تُزجى عن طريق الحمل، حيث الغيوم التي تنتج من ارتفاع بخار فوق الغابات المطيرة تولِّد أمطارًا في اتجاه الريح. وعلى سبيل المثال.. تتسبب رطوبة الغابات المطيرة في جنوب غرب أفريقيا في سقوط المطر على غابات السافانا شبه القاحلة في الشمال.
الأمن الغذائي
النمو السكاني السريع2 يشير إلى أنه ليس من المحتمل أن تحقِّق أفريقيا الاكتفاء الذاتي من الغذاء بحلول عام 2050، حتى في ظل الزيادة الأكبر في مستويات المحاصيل. والبلاد التي تقع في دائرة الخطرـ على وجه التحديد ـ ترتكز في مناطق الساحل، وشمال أفريقيا، والقرن الأفريقي. وستؤدي تجارة الأغذية دورًا ضروريًّا مكملًا لنمو المحاصيل فيما لا يقل عن ثلاثين دولة أفريقية3. ويدعو هذا إلى التنمية الاقتصادية في الصناعات التي تدعمها المياه الزرقاء؛ لتوليد قوة شرائية. وسوف تكون هناك حاجة إلى سياسات اقتصادية إقليمية تحمي الإنتاج الغذائي الوطني، وتسهِّل تجارة الأغذية، بالإضافة إلى الحاجة إلى استجابات طارئة لمواجهة فقدان المحاصيل المحتوم. ويمكن أن تشمل هذه الاستجابات استراتيجيات البقاء والصمود، مثل نظم الضمان الاجتماعي، وبنوك الحبوب، وتأمين تعويض المزارعين عن فقدان المحاصيل.
تحتاج التنمية المستدامة في جنوب الصحراء الأفريقية إلى الاستناد إلى توازن دقيق بين الماء الأزرق والأخضر، أي استخدام المياه الزرقاء في عمليات التحضر، والتصنيع، وتنمية الطاقة؛ واستخدام المياه الخضراء في إنتاج الغذاء والكتلة الحيوية.
وينبغي أن يعكس إطار أهداف التنمية المستدامة جدول أعمال المياه المتكامل هذا. ومن أجل الوفاء بالأهداف الرامية إلى القضاء على الجوع والفقر، والسماح بتنمية اقتصادية طويلة المدى، صار من الضروري أن يركز هدف محدد على الإدارة المستدامة لمياه الأمطار؛ لصالح النظم البيئية وإنتاج الغذاء في المناطق التي تعاني من ندرة المياه.
ويجب على الهيئات والمؤسسات الكبيرة التي تستثمر في التنمية الأفريقية ـ مثل البنك الأفريقي للتنمية، والبنك الدولي، وتحالف الثورة الخضراء في المبادرة الأفريقية ـ أن تستثمر في تنمية القدرات، وأن تُطَوِّر منظومتي التخطيط، والبنية التحتية الخاصة بنظم حصاد المياه على نطاق صغير. وسوف يتكلف ذلك نفقات كبيرة، حيث ستتراوح قيمة الاستثمارات من عشرة مليارات دولار إلى عشرين مليار دولار سنويًّا في 15-10 عامًا، بالمقارنة بتلك المطلوبة في استثمارات خدمات الصرف الصحي الأساسية، والبنية التحتية، وإمدادات المياه. ومع ذلك.. ستعود بنفع كبير على مستويات بناء قدرات التنمية والمقاومة والصمود.
إنّ الحكومات الوطنية في حاجة إلى تحوُّلات في سياساتها. وعادةً ما يتم التعامل مع المياه والزراعة من قِبَل وزارات منفصلة، إلا أن قضايا الماء والغذاء يجب أن تترابط معًا، ويديرها مجال سياسي واحد، ويُفَضَّل أن يتم التعامل في هذه القضايا جنبًا إلى جنب مع قضايا البيئة؛ لتمكين الإدارة المستدامة الفعالة للمياه الخضراء، والمياه الزرقاء، والنظم الإيكولوجية الزراعية، والمناظر الطبيعية.
أخيرًا.. تكمن نقطة ضعف القارة الأفريقية وراء هذا الجملة التي تقول: «إن صياغة الأهداف الإنمائية للألفية صياغة غامضة خطأ جسيم». ومن دون الربط بين قضايا المياه، والغذاء، والنمو، والفقر، والتنمية المستدامة، لن يفي إطار عمل التنمية المستدامة بالوعد الذي قطعه بخصوص القارة السمراء